أفقر قري مصر«كفر حُمِيد» قرية من العصور الوسطي
الثلاثاء سبتمبر 02, 2008 2:34 pm
قري تعيش في ظروف بدائية، لا تمت بصلة إلي العالم الذي يحيط بها، فهنا لا تتعلق المشكلة بأشياء مكملة في الحياة، بل بالحياة نفسها، فأهلها يعيشون عالمهم الخالي من أي خدمات مع قسوة الفقر والحاجة، فتستمر الثنائية تطحنهم في ظل غياب حكومة، لا يهمها سوي أن تبيع أوهام محاربة الفقر في مشاهد مسرحية مماثلة لما حدث في زيارة نجل الرئيس «جمال مبارك» لقرية «ننا» بمحافظة الفيوم.
هؤلاء البشر الغارقون في دوامة توفير أبسط متطلبات الحياة لا يشعرون سوي بأنات الجوع واليأس وغياب الرجاء والأمل، ولا يهمهم سوي أن يناموا ملأي البطون - رغم الشك في ذلك - بعد أن كتب عليهم القدر أن يعيشوا في وطن تسوسه حكومة لا تعترف سوي بالأغنياء. قري تمنحك فضيلة الشكر علي الحال والنعمة، اعتبرها البنك الدولي أكثر القري المصرية فقرًا.
لو كان الفقر رجلاً لقتلته.. لكنه هنا مجتمع كامل، قرية كأنها تعيش في القرون الوسطي، يسكن الفقر كل بيوتها، يطاردك في الطرقات، وتلقاه مرغماً في محال البقالة والجزارة، تراه في مياه الصنبور التي تجمع -في مزيج غريب- بين ملوحة البحر وقلوية مياه الترع الراكدة، وتراه مرسوماً علي وجوه الناس بلا رحمة، وفي الخوف من المرض الذي لا مغيث منه، حيث لا طبيب ولا دواء.. تراه في فرن طيني في قلب الدار لم تقربه النار من سنوات، فلا الأرض تنتج ولا الحيوانات تدر لبناً، تراه في إحدي أفقر القري المصرية.. في كفر حميد.
أربعون كيلو متراً تفصل بين كفر حُمِيد (بضم الحاء وكسر الميم) وبين الجيزة، سيارة متجهة إلي مدينة العياط جنوبي الجيزة، كفيلة بأن تلقي بك علي طريق الصعيد، لتسير بعدها كيلو مترات قليلة بين الحقول، متجاوزاً بعض الترع والمصارف حتي تصل إلي مدخل القرية، التي تبدو للوهلة الأولي وكأنها قرية من الماضي، السكان هنا يركبون الجمال والحمير ويتنقلون بها، ويستخدمون أدوات بدائية للري والزراعة، فهذا فلاح لايزال يستخدم البقرة في تدوير الساقية، وآخر جلس يدير «الشادوف»، معتمداً علي ساعديه لرفع الماء إلي قراريط قليلة زرعها بالأرز، بدأ قبيل أن تشرق الشمس، وحتي الغروب لم يكن قد انتهي بعد.
ما إن تدخل القرية حتي تجد محلاً للجزارة يعكس المشهد كاملاً، المحل الذي لا تتجاوز مساحته المتر المربع، لايزال صاحبه يحافظ علي اللحوم باستخدام ألواح الثلج، أما البهائم فيذبحها علي مصطبة أسمنتية مربعة في عرض الشارع، ويلقي بفضلات الذبح هناك، لذا فلن يكون من العسير تخمين مصدر الرائحة الكريهة التي تواجهك منذ وصولك إلي القرية، وتزداد بشدة كلما اقتربت من محل الجزارة حتي تصل إلي ذروتها بداخله، هذا أيضاً هو سر أسراب الذباب المتراكمة فوق قطع اللحم المعلقة، التي تباع بسبعة وعشرين جنيهاً للكيلو.
لا أحد يبدي اعتراضاً هناك، فالناس راضون بكل شيء، وكل ما يطمعون فيه هو الحد الأدني من الآدمية، فهل من الممكن أن تصدر شكوي بأن اللحوم التي يأكلونها غير مختومة بخاتم وزارة الصحة لأنها لم تذبح في الأصل في «السلخانة»، في الوقت الذي يعيش فيه أكثر من ٢٥ ألف نسمة بلا وحدة صحية أو طبيب منذ سنوات؟
ممدوح فضل، أب لثلاثة أطفال، يموت قلقاً كلما ارتفعت حرارة أحدهم، فهو لا يدري ماذا سيفعل لو تطور الأمر -لا قدر الله- فالوحدة الصحية معطلة منذ ٣ أشهر، بسبب خطأ في تركيب «السباكة» والكهرباء، وهو ما استلزم إزالة كل التجديدات التي أضيفت إلي الوحدة مؤخراً، ورغم ذلك فالوحدة لا تقدم أي خدمات للأهالي، لأن الأطباء الذين كانوا يعملون بها كلهم حديثو التخرج، ويعملون لساعتين فقط في اليوم، وبالتالي فوجودها أو عدمه سيان.
«المرض بالنسبة لنا يساوي الموت»، كان هذا هو رأي فضل، الذي ذاق الأمرين عندما أصيب ابنه الأصغر بالحمي، واضطر إلي نقله في سيارة نصف نقل -يعمل عليها أحد جيرانه- إلي وحدة صحية بالبدرشين، لعدم وجود وسيلة مواصلات من القرية إلي أي مكان آخر، فلم يكن الأب قادراً علي استدعاء سيارة الإسعاف لأن التليفونات لا تعمل بالقرية، بعد تكرار سرقة الكابلات الأرضية لأكثر من ٥ مرات فعاقبتهم الشركة بقطع الخدمة نهائياً.
المياه واحدة من أهم مشكلات هذه القرية، صحيح أنها تصل إلي بعض المنازل، إلا أن مذاقها ولونها يجعلان استخدامها للشرب يعني الموت المحقق، فانحصرت مهمتها في الاستحمام وغسل الأواني، أما المناطق التي لا تصل إليها مثل عزبة الورد، فمن الطبيعي أن تجد الشباب والرجال يستحمون في الترع، في حين تجلس النساء علي حوافها وعلي المصارف يغسلن الملابس والأواني، قصة المياه كما يرويها عم صالح، أحد باعة الخضار الجائلين: «المياه اللي بتوصل للبيوت عفشة، ولا مؤاخذة يابيه البهايم تعاف -ترفض- تشرب منها، مياه الطلمبات مالحة وماتتشربش، ومياه البيوت زي مياه الترعة، ومافيش في العزبة غير الحنفية الرئيسية اللي بنشرب منها كلنا إحنا والبهايم».
وتابع: «أنا بلف طول اليوم عشان جنيه، اللي هو مكسبي من كيلو قوطة أو أتة (قثة)، وآخر النهار أشتري جردل مية بنص جنيه و٥ أرغفة، وبربع جنيه برسيم للحمار».
وقاطعته عظيمة: «إنتو فاكرينا عايشين إزاي، الرجالة بيشتغلوا في الفاعل في القري والمراكز التانية، وبعد العصر بتيجي شركة استيراد وتصدير وتجيب أكوام البامية، وتخرج الستات كلهم وبناتهم ويقعدوا لاجل يقمعوها -تجهيزها للطبخ- وبياخدوا علي الكيلو عشرة صاغ».
في الطريق إلي عزبة الورد، وبجوار الصنبور الرئيسي جلست ميمونة، أربعينية ترتدي جلباباً ريفياً، وإلي جوارها كومة من الصحون والأواني وبعض الخضر التي أحضرتها لتغسلها، ولا مانع لديها في أن تطبخ هنا أيضاً بالقرب من الماء، ما إن رأتنا حتي تحدثت بلهجة من اعتاد الأمر: «إنتو جايين طبعاً بعد اللي اتنشر في الجرايد إننا أفقر قرية في الزمام»، لم أرد أن أقاطعها لأوضح لها أن قريتها تحتل ترتيباً متقدماً جداً في ترتيب القري الأكثر فقراً في مصر كلها، وليس علي مستوي الزمام فقط، «الناس هنا مش لاقية الأكل ولا الشرب، والطوابير علي الحنفية بتبدأ من شروق الشمس، وتخلص لما النسوان تتعب من الخناق،
والكفر كله مافيهوش غير فرن واحد، ومابيكفيش حد، ومابقاش حد يخبز عيش لأن تكلفة الخبيز بقت غالية، والمية زي ما انتو شايفين، وعواميد الكهربا بتكهرب الناس والمواشي، ومن كام يوم فيه جاموسة اتكهربت تمنها ١٠ آلاف جنيه.. إحنا حالتنا كرب صحيح، بس الناس عايشة وراضية».
المشاكل هنا لم تتوقف عند ما ذكرناه فقط، محمد العمري، أضاف إلي كل هذا مشكلة المصرف الزراعي، الذي تحول مع مرور الوقت إلي مصرف صحي، تأتي سيارات «الكسح» كل بضعة شهور فتلقي بما تحمله فيه، تفريغ الخزان يتكلف أكثر من ١٥٠ جنيهاً، أما الشوارع الضيقة، فيتم استخدام عربات يجرها حصان، ثم ينزح الخزان يدوياً عن طريق «الجرادل».
يحكي العمري عن أطفال كثيرين غرقوا في مياه هذا المصرف، وعن أمراض معدية تسببت فيها أكوام القمامة التي تمثل تلاً صغيراً علي ضفتيه، ويحكي بغيظ أكبر عن أعضاء مجلس الشعب الذين يظهرون فقط وقت الانتخابات، ويرغمونهم علي التصويت لهم مقابل جنيهات قليلة، يتكلم عن مركز الشباب، هذا المبني الخرب في قلب تل رملي، تعلوه لافتة لولاها لم تكن لتتصور هوية هذا المكان، أرض فضاء بها عارضتان من الحديد وبينهما مساحة من الأرض غير المستوية، تكسوها طبقات من الطفلة التي تستخدم في صناعة الطوب، فمن لم تجرح قدمه منها فلن ينجو إن سقط، والشواهد ضحايا من شباب القرية غلفت أقدامهم وأيديهم بطبقات من الجبس.
أما طارق معدول، مدرس بمدرسة القرية الابتدائية والإعدادية، فقال: إن عدم وجود مدرسة ثانوية أو معهد ديني، جعل أولياء الأمور يرفضون استكمال بناتهم تعليمهن الثانوي، لأن المدرسة الثانوية تبعد أكثر من ٥ كيلو مترات، ولا توجد أي وسيلة للتنقل هنا، أما الأولاد فبعضهم يذهب إلي هناك بالحمير أو علي الدراجات، وهذا لميسوري الحال فقط، وقاطعته فتاة بعصبية شديدة: «إحنا اتفضحنا وسط القري التانية، والناس كلها بتعايرنا بفقرنا، والناس بتيجي وتكتب عننا ومافيش حاجة بتتغير وكل اللي بنعمله إننا بنفضح في نفسنا وبس.. سيبونا في حالنا بقي».
الفقر والجهل والخوف من الغد ومن لقمة العيش التي ربما لا تأتي، هو مصير هذه القرية المنسية، التي ستجد فيها استثناء لكل قاعدة، فهنا ينام الناس بدون عشاء، وهنا يعمل الفرد طوال اليوم سعياً وراء جنيه واحد، وهنا يخدمون الغير ويأخذون الفتات، وهنا قرية بين مجريين للنيل وتشرب ماء ملوثاً أو تشتريه من الخارج، وهنا يقبع المرض، وهنا أيضاً يعيش الناس راضين رغم كل هذا.. هنا قرية كفر حميد.
هؤلاء البشر الغارقون في دوامة توفير أبسط متطلبات الحياة لا يشعرون سوي بأنات الجوع واليأس وغياب الرجاء والأمل، ولا يهمهم سوي أن يناموا ملأي البطون - رغم الشك في ذلك - بعد أن كتب عليهم القدر أن يعيشوا في وطن تسوسه حكومة لا تعترف سوي بالأغنياء. قري تمنحك فضيلة الشكر علي الحال والنعمة، اعتبرها البنك الدولي أكثر القري المصرية فقرًا.
لو كان الفقر رجلاً لقتلته.. لكنه هنا مجتمع كامل، قرية كأنها تعيش في القرون الوسطي، يسكن الفقر كل بيوتها، يطاردك في الطرقات، وتلقاه مرغماً في محال البقالة والجزارة، تراه في مياه الصنبور التي تجمع -في مزيج غريب- بين ملوحة البحر وقلوية مياه الترع الراكدة، وتراه مرسوماً علي وجوه الناس بلا رحمة، وفي الخوف من المرض الذي لا مغيث منه، حيث لا طبيب ولا دواء.. تراه في فرن طيني في قلب الدار لم تقربه النار من سنوات، فلا الأرض تنتج ولا الحيوانات تدر لبناً، تراه في إحدي أفقر القري المصرية.. في كفر حميد.
أربعون كيلو متراً تفصل بين كفر حُمِيد (بضم الحاء وكسر الميم) وبين الجيزة، سيارة متجهة إلي مدينة العياط جنوبي الجيزة، كفيلة بأن تلقي بك علي طريق الصعيد، لتسير بعدها كيلو مترات قليلة بين الحقول، متجاوزاً بعض الترع والمصارف حتي تصل إلي مدخل القرية، التي تبدو للوهلة الأولي وكأنها قرية من الماضي، السكان هنا يركبون الجمال والحمير ويتنقلون بها، ويستخدمون أدوات بدائية للري والزراعة، فهذا فلاح لايزال يستخدم البقرة في تدوير الساقية، وآخر جلس يدير «الشادوف»، معتمداً علي ساعديه لرفع الماء إلي قراريط قليلة زرعها بالأرز، بدأ قبيل أن تشرق الشمس، وحتي الغروب لم يكن قد انتهي بعد.
ما إن تدخل القرية حتي تجد محلاً للجزارة يعكس المشهد كاملاً، المحل الذي لا تتجاوز مساحته المتر المربع، لايزال صاحبه يحافظ علي اللحوم باستخدام ألواح الثلج، أما البهائم فيذبحها علي مصطبة أسمنتية مربعة في عرض الشارع، ويلقي بفضلات الذبح هناك، لذا فلن يكون من العسير تخمين مصدر الرائحة الكريهة التي تواجهك منذ وصولك إلي القرية، وتزداد بشدة كلما اقتربت من محل الجزارة حتي تصل إلي ذروتها بداخله، هذا أيضاً هو سر أسراب الذباب المتراكمة فوق قطع اللحم المعلقة، التي تباع بسبعة وعشرين جنيهاً للكيلو.
لا أحد يبدي اعتراضاً هناك، فالناس راضون بكل شيء، وكل ما يطمعون فيه هو الحد الأدني من الآدمية، فهل من الممكن أن تصدر شكوي بأن اللحوم التي يأكلونها غير مختومة بخاتم وزارة الصحة لأنها لم تذبح في الأصل في «السلخانة»، في الوقت الذي يعيش فيه أكثر من ٢٥ ألف نسمة بلا وحدة صحية أو طبيب منذ سنوات؟
ممدوح فضل، أب لثلاثة أطفال، يموت قلقاً كلما ارتفعت حرارة أحدهم، فهو لا يدري ماذا سيفعل لو تطور الأمر -لا قدر الله- فالوحدة الصحية معطلة منذ ٣ أشهر، بسبب خطأ في تركيب «السباكة» والكهرباء، وهو ما استلزم إزالة كل التجديدات التي أضيفت إلي الوحدة مؤخراً، ورغم ذلك فالوحدة لا تقدم أي خدمات للأهالي، لأن الأطباء الذين كانوا يعملون بها كلهم حديثو التخرج، ويعملون لساعتين فقط في اليوم، وبالتالي فوجودها أو عدمه سيان.
«المرض بالنسبة لنا يساوي الموت»، كان هذا هو رأي فضل، الذي ذاق الأمرين عندما أصيب ابنه الأصغر بالحمي، واضطر إلي نقله في سيارة نصف نقل -يعمل عليها أحد جيرانه- إلي وحدة صحية بالبدرشين، لعدم وجود وسيلة مواصلات من القرية إلي أي مكان آخر، فلم يكن الأب قادراً علي استدعاء سيارة الإسعاف لأن التليفونات لا تعمل بالقرية، بعد تكرار سرقة الكابلات الأرضية لأكثر من ٥ مرات فعاقبتهم الشركة بقطع الخدمة نهائياً.
المياه واحدة من أهم مشكلات هذه القرية، صحيح أنها تصل إلي بعض المنازل، إلا أن مذاقها ولونها يجعلان استخدامها للشرب يعني الموت المحقق، فانحصرت مهمتها في الاستحمام وغسل الأواني، أما المناطق التي لا تصل إليها مثل عزبة الورد، فمن الطبيعي أن تجد الشباب والرجال يستحمون في الترع، في حين تجلس النساء علي حوافها وعلي المصارف يغسلن الملابس والأواني، قصة المياه كما يرويها عم صالح، أحد باعة الخضار الجائلين: «المياه اللي بتوصل للبيوت عفشة، ولا مؤاخذة يابيه البهايم تعاف -ترفض- تشرب منها، مياه الطلمبات مالحة وماتتشربش، ومياه البيوت زي مياه الترعة، ومافيش في العزبة غير الحنفية الرئيسية اللي بنشرب منها كلنا إحنا والبهايم».
وتابع: «أنا بلف طول اليوم عشان جنيه، اللي هو مكسبي من كيلو قوطة أو أتة (قثة)، وآخر النهار أشتري جردل مية بنص جنيه و٥ أرغفة، وبربع جنيه برسيم للحمار».
وقاطعته عظيمة: «إنتو فاكرينا عايشين إزاي، الرجالة بيشتغلوا في الفاعل في القري والمراكز التانية، وبعد العصر بتيجي شركة استيراد وتصدير وتجيب أكوام البامية، وتخرج الستات كلهم وبناتهم ويقعدوا لاجل يقمعوها -تجهيزها للطبخ- وبياخدوا علي الكيلو عشرة صاغ».
في الطريق إلي عزبة الورد، وبجوار الصنبور الرئيسي جلست ميمونة، أربعينية ترتدي جلباباً ريفياً، وإلي جوارها كومة من الصحون والأواني وبعض الخضر التي أحضرتها لتغسلها، ولا مانع لديها في أن تطبخ هنا أيضاً بالقرب من الماء، ما إن رأتنا حتي تحدثت بلهجة من اعتاد الأمر: «إنتو جايين طبعاً بعد اللي اتنشر في الجرايد إننا أفقر قرية في الزمام»، لم أرد أن أقاطعها لأوضح لها أن قريتها تحتل ترتيباً متقدماً جداً في ترتيب القري الأكثر فقراً في مصر كلها، وليس علي مستوي الزمام فقط، «الناس هنا مش لاقية الأكل ولا الشرب، والطوابير علي الحنفية بتبدأ من شروق الشمس، وتخلص لما النسوان تتعب من الخناق،
والكفر كله مافيهوش غير فرن واحد، ومابيكفيش حد، ومابقاش حد يخبز عيش لأن تكلفة الخبيز بقت غالية، والمية زي ما انتو شايفين، وعواميد الكهربا بتكهرب الناس والمواشي، ومن كام يوم فيه جاموسة اتكهربت تمنها ١٠ آلاف جنيه.. إحنا حالتنا كرب صحيح، بس الناس عايشة وراضية».
المشاكل هنا لم تتوقف عند ما ذكرناه فقط، محمد العمري، أضاف إلي كل هذا مشكلة المصرف الزراعي، الذي تحول مع مرور الوقت إلي مصرف صحي، تأتي سيارات «الكسح» كل بضعة شهور فتلقي بما تحمله فيه، تفريغ الخزان يتكلف أكثر من ١٥٠ جنيهاً، أما الشوارع الضيقة، فيتم استخدام عربات يجرها حصان، ثم ينزح الخزان يدوياً عن طريق «الجرادل».
يحكي العمري عن أطفال كثيرين غرقوا في مياه هذا المصرف، وعن أمراض معدية تسببت فيها أكوام القمامة التي تمثل تلاً صغيراً علي ضفتيه، ويحكي بغيظ أكبر عن أعضاء مجلس الشعب الذين يظهرون فقط وقت الانتخابات، ويرغمونهم علي التصويت لهم مقابل جنيهات قليلة، يتكلم عن مركز الشباب، هذا المبني الخرب في قلب تل رملي، تعلوه لافتة لولاها لم تكن لتتصور هوية هذا المكان، أرض فضاء بها عارضتان من الحديد وبينهما مساحة من الأرض غير المستوية، تكسوها طبقات من الطفلة التي تستخدم في صناعة الطوب، فمن لم تجرح قدمه منها فلن ينجو إن سقط، والشواهد ضحايا من شباب القرية غلفت أقدامهم وأيديهم بطبقات من الجبس.
أما طارق معدول، مدرس بمدرسة القرية الابتدائية والإعدادية، فقال: إن عدم وجود مدرسة ثانوية أو معهد ديني، جعل أولياء الأمور يرفضون استكمال بناتهم تعليمهن الثانوي، لأن المدرسة الثانوية تبعد أكثر من ٥ كيلو مترات، ولا توجد أي وسيلة للتنقل هنا، أما الأولاد فبعضهم يذهب إلي هناك بالحمير أو علي الدراجات، وهذا لميسوري الحال فقط، وقاطعته فتاة بعصبية شديدة: «إحنا اتفضحنا وسط القري التانية، والناس كلها بتعايرنا بفقرنا، والناس بتيجي وتكتب عننا ومافيش حاجة بتتغير وكل اللي بنعمله إننا بنفضح في نفسنا وبس.. سيبونا في حالنا بقي».
الفقر والجهل والخوف من الغد ومن لقمة العيش التي ربما لا تأتي، هو مصير هذه القرية المنسية، التي ستجد فيها استثناء لكل قاعدة، فهنا ينام الناس بدون عشاء، وهنا يعمل الفرد طوال اليوم سعياً وراء جنيه واحد، وهنا يخدمون الغير ويأخذون الفتات، وهنا قرية بين مجريين للنيل وتشرب ماء ملوثاً أو تشتريه من الخارج، وهنا يقبع المرض، وهنا أيضاً يعيش الناس راضين رغم كل هذا.. هنا قرية كفر حميد.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى