قصص القرآن مع عمرو خالد غلام سورة البروج هو البطل والرسالة موجهة لكل شباب الأمة
السبت سبتمبر 06, 2008 1:58 pm
الحلقة الخامسة
عمرو خالد في قصص القرآن:
عش من أجل الناس ولاتخدم الظالمين فالحياة قصيرة فلا تهين نفسك من أجلها أو من أجل لقمة العيش
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي رسول الله صلي الله عليه وسلم، أهلاً بكم. تناولنا حتي الآن في قصص القرآن قصتين، هما قابيل وهابيل، وقصة أصحاب الجنة، وتتحدث كل قصة عن نوع من مشاكل البشر، وكل فرد يري فيها نفسه. كما أخبرتكم في أول حلقة أن كل فرد منا سيري نفسه في قصة أو أكثر من قصة، ولذلك عندما تحدثنا عن قابيل وهابيل سألنا: هل أنت من النفس المطمئنة؟ أم الحاسدة؟ أم المتكبرة؟ أم البخيلة؟ أم الطماعة؟ ووجدنا رسائل أخري للبنان، وفلسطين، والعراق، ودارفور، وتكلمنا عن كيفية التعايش مع بعضهم البعض، وتكلمنا عن رسالة عن صلة الرحم، ثم بعد ذلك تكلمنا عن أصحاب الجنة، والحث علي عدم أكل حقوق المساكين، وإخراج العطاء والصدقة. أتذكرون شعارنا؟ سأحيا بالقرآن.
»
قصة اليوم قصة جديدة، لها بُعد وزاوية جديدة، وهي قصة طويلة، ونزلت فيها سورة كاملة، وهي سورة البروج، والنبي - صلي الله عليه وسلم - قصَّ هذه القصة، وعندما تطلع علي كتب الأحاديث ستجد أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قصَّ القصة في ثلاث صفحات، فهي واقعية، ومليئة بأحداث مؤثرة، وقد قصَّها رسول الله - صلي الله عليه وسلم - في مكة لعلي بن أبي طالب وبلال وصهيب ولسمية رضي الله عنهم أجمعين. أتخيل عندما قصَّها لعلي بن أبي طالب، وأتخيل عينيّ علي بن أبي طالب وهو يقول: وعيت ما قلته يا رسول الله.
هذه القصة يمكن أن تكون فيلمًا دراميًا مؤثرًا للغاية، وأنا أرجو كُتاب السيناريو أن يستمعوا لهذه القصة، لأنها من الممكن أن تكون فيلمًا عالميًا، فمن حلاوة قصص القرآن أنها ليست منغلقة علي المسلمين فقط، وإني لأتساءل لماذا أغلق المسلمون كتابهم علي أنفسهم؟!
هذا كتاب عالمي يحدث العالم. أنتم أصحاب رسالة عالمية يا مسلمون، بدأت بـ: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) }الفاتحة:2{، وختمت بـ: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) }الناس:1{، رسالة عالمية، وقصة اليوم عالمية.
أين ومتي وقعت هذه القصة؟
وقعت هذه القصة في اليمن في منطقة تسمي نجران علي حدود السعودية الآن، وقد كانت سنة خمسمائة وثلاث وعشرين ميلادية، أي قبل بعثة النبي - صلي الله عليه وسلم - بأربعين سنة، أي أنها قريبة جدًا من عصر النبي - صلي الله عليه وسلم -.
شخصيات القصة:
شخصيات القصة هم: ملك، ساحر، راهب، وغلام يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، ورضيع، وجنود، وشعب، وبطل القصة هو الغلام الذي يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، واسمه عبد الله بن ثامر، ولن أركز علي اسمه لأن النبي - صلي الله عليه وسلم - لم يركز علي الاسم، ولكنه ركز علي كلمة الغلام. وكأن النبي يُحدث كل غلام في نفس المستوي العمري لهذا الغلام، بل ويُحدث أيضًا شباب الأمة في هذه القصة، فبطل القصة هو الغلام، وليس الراهب العابد.
أهداف القصة:
يريد رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أن يعلمنا من وراء هذه القصة عدة معان منها:
1- لابد أن تكون صاحب رسالة، ولا تحيا لكي تأكل، وتشرب، وتتزوج، وتنجب، وتموت
فقط، هذه ليست حياة لإنسان يريد أن يحمل رسالة.
2- عش بالحق وضَحي من أجل الحق ولو بحياتك، وواجه الظلم ولكن بحكمة، وبدون عنف، واكشف الباطل بحكمة أيضًا.
3- عش من أجل الناس وخدمتهم، ولا تخدم الظالمين.
4- الحياة قصيرة، لذلك إياك أن تهين نفسك من أجل الظلم، أو من أجل لقمة العيش، لأن الحياة لا تساوي شيئًا.
5- الإعلام له دور أيضًا، فمن الممكن أن يخدع ويضل الناس، أو أن يأخذ بأيديهم إلي الهداية والصلاح، وكلاهما في القصة.
الأحداث:
الملك:
في يوم من الأيام، كان هناك ملك يُدعي «ذو نواس»، يعيش في اليمن، سنة خمسمائة وثلاث وعشرين ميلادية، وكان ظالمًا شديد الظُلم، يأكل حقوق الناس، ولكي يخفي ما كان يفعله من أكله لحقوق الناس وظلمه إياهم وسجنهم وقتلهم، ولكي يقبل الناس ذلك جعل من نفسه إلهًا، فالملك قد فعل جريمتين، وهما: أكل حقوق الناس، وجعل من نفسه إلهًا، ولأن الناس كانت خائفة من بطشه وظلمه قبلت هذا الوضع إلا شخصًا واحدًا، ونسوا أن لا إله إلا الله بعدما قد جاء بها المسيح عيسي - عليه السلام.
الراهب:
الراهب رجل مسن، وهو الرجل الوحيد الذي يعلم أن هذا الملك كاذب، ومخادع، وأن الملك جعل من نفسه إلهًا لكي يأكل حقوق الناس، والراهب يعني أن هناك مشكلتين لابد من علاجهما وهما: أن لا إله إلا الله قد نُسيت، والمشكلة الأخري أن الناس قد سُلبت حقوقها، فالراهب يريد أن يحل هاتين المشكلتين، ولكن بدون عنف. بدأ الراهب يتحدث مع الناس، وحدثت همهمة في البلد بين الناس وهم يتحدثون عن الحق، والعدل، والحرية، والدين، وعن لا إله إلا الله، فوصل الأمر لمسامع الملك وبدأ يبطش بهم، وأخذ واحدًا من هؤلاء الذين كانوا يتحدثون، فظل يعذبه، والرجل يقول له: أنت لست بإله، فيزداد الإيذاء، فيقول له الرجل مرة أخري: أنت لم تصنع معجزات، والإله يصنع المعجزات، فيزداد الإيذاء عليه، حتي قال له الملك: مَنْ الذي أخبرك بهذا الحديث؟ فأخبره عن الراهب، فعندما علم الراهب بذلك فرّ.
شعر الملك من داخله أنه ضعيف وليس بإله، فأراد أن يعمل شيئًا إعلاميًا ليُبهر به الناس، ويروه قويًاً، فأتي بساحرٍ.
الساحر:
دور الساحر هو أن يقنع الناس أن الملك إله، فبدأ الساحر بالخدع، وبفعل أشياء وكأنها معجزات، ويوهم الناس أنه هو الذي يفعل هذه الأشياء، وأن السحاب يتجمع ويُشكل اسم الملك، وكلها بالخدع، فصدق الناس هذه الخدع. وقُتل الرجل الذي كان يُؤذي، وفرَّ الراهب منذ ذلك اليوم. أما الملك فسعد بصنيع الساحر وقربه منه، وكبر في مملكة الملك، وأصبح ناجحًا، والناس نسيت لا إله إلا الله، بعد فرار الراهب أصدر الملك قراراً بأن من يجد الراهب له جائزة وقدرها ألف دينار، وقد فرَّ الراهب إلي كوخ داخل مغارة علي حدود المدينة، ولكنه يسعي لإيجاد مَنْ يحمل عنه الرسالة لأنه أصبح مسنًا، وقاربته المنية. ومن ناحية أخري، كان الملك يحذر من الساحر بل ويبغضه لأنه الوحيد الذي كان يعلم سره، وكان ينتظر الفرصة السانحة لكي يقضي عليه ويتخلص منه، والساحر يتغير في كل زمان، تارة يكون الفن، وتارة يكون عناوين الصحف، وتارة تجده في التلفاز، وتارة في الأغاني.
انظر إلي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وهو يقول: (كان فيمن كان قبلكم، ملك وكان عنده ساحر) - تخيل السيدة سمية وهي تسمع الآن، وسيدنا أبو بكر، وسيدنا بلال، ويسمع أيضًا سيدنا علي، وسيدنا الزبير وسيدنا طلحة، وكل واحد منهم في سن الغلام، وكأن النبي - صلي الله عليه وسلم - يُريد أن يُبين لنا بأن مُلك الملك وِسحر الساحر متلازمان، لأن الساحر هو الذي يقنع الناس لكي يظل مُلك الملك، وهو أيضًا وسيلة إعلام للملك_ فقال الساحر للملك: (إني قد كبُرت) - إذن فالساحر كبُر، والراهب أيضًا كبُر - (فانظر إلي غلام، اُعلمه السحر، ليبقي ما تصنع وما تريد) - فالساحر يريد جيلاً جديدًا من السحرة لكي يعلمهم السحر، ليبقي ما يريده الملك، ولكي يظل الفساد والظلم وخداع الناس كما هو-(فانظر لي غلامًا فطنًا أُعلمه السحر) فأتي بالغلام.
الغلام:
كان هناك غلام يبلغ من العمر سبع سنوات يشاهد كل هذا، ودعونا نسميه بـ «الغلام» كما سماه النبي - صلي الله عليه وسلم -، وذلك لكي يعي كل شاب صغير هذه القصة. ظل وضع المدينة هكذا سبع سنوات، وعندما بلغ الغلام الخامسة عشرة من عمره أتي به الملك إلي الساحر لشدة ذكائه، فتعلم السحر والخدع وسار علي نهج الساحر، لأنه لم يكن صاحب رسالة. دخل الغلام قصر الملك ورأي الفخامة التي فيه، وظل يحلم بأنه في يوم من الأيام سيحل محل الساحر، ويعيش في هذا النعيم، وقد أُغري بهذه الأشياء كلها، ولكن هل الحق أقوي يا تُري؟!
أصبح الغلام علي دراية تامة بكيفية صنع الخدع وأفعال السحر، لأنه فطن وذكي. يقول النبي - صلي الله عليه وسلم -: (فكان الغلام إذا أراد أن يذهب إلي الساحر، مرَّ علي كهف الراهب..) لأن الراهب يسكن علي أطراف المدينة، والغلام يسكن خارج المدينة، لأنه من عائلة فقيرة، فكان كلما ذهب إلي قصر الملك - لكي يتعلم السحر - يمرُّ علي كهف الراهب. الله هو المدبر حقاً، فالساحر يُدبر، والملك يُدبر، وربك أيضًا يُدبر، والراهب يُريد أيضًا أن يوصل رسالته. بدأ الراهب يلاحظ أن هناك من يمرّ من أمام الكهف، والراهب خائف ومطارد، فبدأ يرصده، فوجده غلامًا صغيرًا عليه سمت الذكاء والفطنة، فبدأ يُفكر كيف يصل إلي هذا الغلام. المعركة هنا علي الغلام، يا تري من الذي سينتصر؟ ومن الذي سيأخذ الجيل الجديد؟ الساحر أم الراهب؟ الإيمان أم الباطل؟ ويا تري يا شباب ما الذي ستختارونه؟ هل ستختارون أن ترقصوا علي أغاني الفيديو كليب، أم ستختارون الحق وتواجهون الظلم وتخدمون الآخرين، وتحيون من أجل رسالة؟ أيها الشاب.. إن المعركة الآن علي الجيل الجديد، وليس هناك أمل للوطن العربي ولا لهذه الأمة إلا بجيل جديد يحمل رسالة.
مقابلة الراهب:
الراهب يريد أن يصل إلي الغلام، ويريد أن يتحدث إليه، وفي يوم من الأيام كان الغلام ذاهبًا إلي الساحر، فسقط في حفرة، فذهب الراهب إليه، وقال له: أخرج نفسك، دع السحر الذي تعلمته يخرجك من هذه الحفرة. ولكن الراهب مدّ يده للغلام، وأخرجه من تلك الحفرة، وقال له: «الساحر علمك الوهم، وأنا سأُعلمك الحقيقة، إذا كنت تريد أن تتعلم الحقيقة، هذا هو كهفي». هذه مغامرة من الراهب لأن الغلام ممكن أن يبلغ عنه الملك، ويأخذ الألف ألف دينار، ولكنه ضحي من أجل الحق، وكان لابد له أن يغامر.
ترك الراهب الغلام لحب الاستكشاف التي هي سمة الشباب في ذلك السن، وكان الراهب علي يقين بأن الغلام سيأتي إليه، وقد أحدث الغلام شيئًا في غاية الروعة، وهو أنه سأل عن الراهب قبل أن يأخذ منه العلم. احذر أيها الشاب أن تنساق مع أي شخص يمكن أن يكون متطرفاً. وعندما سأل عن الراهب قيل له إنه كان رجلًا طيبًا، ولكن حوله شبهات وعلامات استفهام كثيرة، عندئذٍ قرر الغلام أن يذهب إلي الراهب، ولكن الراهب لم ينزعج بالشبهات وعلامات الاستفهام الكثيرة التي حوله، لأنه يعلم أن الله سبحانه وتعالي موجود؛ وسيُظهر الحق، والذي يقال عن الدعاة اليوم من شبهات علي صفحات الإنترنت يثير لدي الشباب حُب الاستكشاف، وهذا يكون بداية الخيط الذي يأخذه الشباب لكي يعلموا الحق. والغلام أراد أن يستكشف. فأنا أنصح الآباء والأمهات، وأقول لهم: إن جزءًا من تكوين ولدك أنه يريد أن يستكشف العالم من حوله، ولابد أن تتعامل معه بحكمة، فلذلك لابد أن تغرس بداخله القيم والأخلاق منذ صغره، لأنك لا تستطيع أن تسيطر عليه في هذه السن بالعنف.
الغلام يتعلم علي يدي الراهب:
ذهب الغلام إلي الراهب، وظل يسأله عن الذي لديه، بل كان يذهب إلي الراهب والساحر في آنٍ واحد، وظل الراهب يشرح للغلام كل شيء، والغلام يلِح عليه ويكثر من الأسئلة، إلي أن علمه لا إله إلا الله، وأخبره بالحقيقة كلها، وهي أن الملك ليس بإله، وأن الذي يعلمه لك الساحر خداع ليخدع به الناس، وأن الساحر باع دينه لكي يحصل علي المال الوفير الذي ليس له قيمة، فاستوعب الغلام كل كلمة قالها الراهب، ولم يُبلغ عنه ويأخذ الجائزة بالرغم من صغر سنه، بالإضافة إلي أنه في حاجة ملحة إلي المال. أريد أن أنصح الشباب بهذه المناسبة: لا تبيعوا يا شباب دينكم، لو العامة والناس كلها باعت دينها فلا تبيعوه أنتم. إذا بقي شاب واحد لم يبع فمن الممكن أن يكون هذا الشاب أو هذا الغلام عبد الله بن ثامر.
لم يسلم الغلام نفسه بالكلية للراهب، فكان يذهب أيضًا للساحر، لأن هذه هي طبيعة الشباب، ولأنه أيضًا كان مترددًا. قال النبي: (فجلس الغلام يسمع إلي الراهب، ويسأله عن الله كلما مرّ به، حتي أخبره الحق كله)، فتوطدت العلاقة بين الراهب والغلام، وأصبح يراه مرتين يوميًا، مرة وهو خارج من بيته ذاهبًا إلي قصر الملك لكي يتعلم السحر، ومرة أخري وهو عائد من عند الساحر إلي بيته، لذلك هو يذهب إلي الراهب صباحًا ومساءً. أريد أن أسأل الشباب: ما هي رسالتك في الحياة؟ ما الذي تريده؟ لا تحيا للا شيء، ولكن عش من أجل الحق، وابحث عما تستطيع أن تصلحه في بلدك وافعله.
الغلام بين الساحر والراهب:
انظر إلي الشاب! هو غلام ليس لديه معجزات وليس بنبي. رأي أن الراهب يعيش في كوخ، والساحر يعيش في قصر الملك، أحدهم يعلمه الخداع، والآخر يعلمه الحقيقة، أحدهم في يديه كل السلطة «الساحر»، والآخر مطارد في كهف «الراهب». تخيل أن الغلام يري هذين الشخصين كل يوم! فهذا بمثابة إعداد للغلام.
أريد أن أقول لكل أب، احذر أن يكون أبناؤك منغلقين ولا يفعلون شيئًا في حياتهم، لأنهم إذا كانوا منغلقين فلن يستطيعوا أن يواجهوا شيئًا في هذه الدنيا، فالغلام رأي المتناقضات، وتلقي العلم من مصدرين متعارضين، فأصبح منفتحًا، وأصبح عميق التفكير. وعندما كان يذهب الغلام إلي الراهب لم يكن الراهب يمنعه من الذهاب إلي الساحر، لأن فطرته هي التي ستدله بعد ذلك إلي الحق، وأنا علي يقين أننا إذا ما نفذنا هذا الأسلوب مع شبابنا فسوف يختارون الحق، ومهما كان الظلم متفشيًا وظاهرًا، فهناك فطرة لا إله إلا الله في النفوس.
بدأ الراهب يعلم الغلام الحق والخير ومساعدة الناس وأن يحبهم ويخدمهم، ويعلمه أن الدنيا قصيرة، ولابد أن نحيا من أجل الحق، وقمة الخذلان أن تموت وأنت بلا قيمة، وعلمه أن لا إله إلا الله، فلا نخشي إلا من الذي خلقنا، وعلمه أن يكون مرنًا ومتوازنًا. لاحظوا أن الراهب قد احترم عقل الغلام، فعندئذٍ احترمه الغلام أيضًا، وكانت النتيجة أن الغلام أصبح يسمع للراهب، لذلك أريد أن أوصي الآباء: عندما تحرم ابنك من شيء لخطأ ما ارتكبه، فلا تحرمه منه كلية، ولكن جزء منه لكي يحترمك، ويشعر أنك تحترم عقله.
اختيار الغلام:
هل سيختار الغلام الألف ألف دينار ويكون في رعاية الملك؟ أم سيذهب إلي الراهب المطارد؟ هل سيختار الحق أم الباطل؟
يحكي النبي صلي الله عليه وسلم ويقول: (فكان الغلام إذا أتي الساحر تأخر- لأنه عند الراهب- فضربه الساحر، فإذا عاد إلي أهله ليلًا تأخر- لأنه عند الراهب أيضًا - فضربه أهله)، ونحن قد علمنا فيما سبق أن الراهب لم يمنعه من الساحر، وقال له: «تعال في الصباح قبل أن تذهب إلي الساحر، وعند المساء، قبل العودة إلي منزلك»، وذلك ليعطيه الجرعة الإيمانية في الصباح، وفي المساء ليزيح عنه السموم التي بثها بداخله الساحر. بعد فترة من هذه الأحداث اشتد الإيذاء علي الغلام من قِبل الساحر ومن قِبل أهله، فكانت النتيجة أنه ذهب واشتكي إلي الراهب، لأنه لم يؤذه قط، وهذا دليل علي نجاح الراهب في دعوته للغلام، ودليل نجاح أي داعية إلي الله أن يحكي له الناس مشاكلهم الخاصة، ودليل نجاحك أيضًا كأب أو كأم أن يحكي لك ابنك مشاكله.
عندئذٍ سأل الغلام الراهب ماذا يفعل لكي يخفف عن نفسه شدّة الإيذاء، فقال له الراهب: «إذا تأخرت في ذهابك إلي الساحر فاجلس عند أهلك بعض الوقت، فإذا سألك فقل أخرني أهلي، وإذا تأخرت في العودة إلي أهلك فاجلس معه بعض الوقت أيضًا وقل أخرني الساحر»، وهنا يعلمه المرونة، إنه يحافظ علي نفسه مع عدم الكذب، بالإضافة إلي أنه لم يعلمه المثالية، وكان في استطاعة الراهب أن يقول له: قل لأهلك الحقيقة، أو يقول له: لا تذهب للساحر مرة أخري، أو من الممكن أن يقول له: تحمل الضرب، ولكن الراهب يعي أنه في مواجهة بين الحق والباطل، فعندما يكون هناك مواجهة بين الحق والباطل لابد أن يكون هناك مرونة، وأريد أن أنصح بها كل أب، وأقول له: لا تدع ابنك يقول لك حبسني الساحر!! كن أبًا صديقًا.
اليوم الفاصل وظهور الحق:
تعب الغلام من الصراع الداخلي الذي بداخله، كما أنه لم يختر إلي الآن، ولكنه يميل إلي الراهب، هو ليس بصاحب رسالة بعد، ولكنه اكتسب خبرة. أريد أن أقول: إنه لا يوجد أحد يكبر هكذا بدون أن يتعب ويبذل مجهودًا. إذا كنت تريد النجاح في حياتك العملية عليك أن تتعب وتبذل مجهودًا، وتتحرك في الدنيا، وتمشي في مناكبها، ولكن حصِّن نفسك بالإيمان.
في يوم من الأيام كان الغلام يسير في الطريق، وبينما كان هذا الصراع يموج في داخله، سمع صوت صراخ، والناس تعلم أن هذا الغلام تلميذ الساحر. يقول النبي صلي الله عليه وسلم: (فبينما الغلام يمرّ في الطريق، إذا بدابة - أسد - تحبس الناس عن الطريق - منعت الناس أن يذهبوا لكي يملأوا المياه من البئر، والناس خائفون، فخطرت للغلام فكرة - فقال الغلام اليوم أعلم أيهم أحب إلي الله، الساحر أم الراهب - لأنه استنبط أنه لو ساعد هؤلاء العامة فإن الله سيظهر له الحق. ساعد الناس من أجل الحق، اخدم الناس والله سيظهر لك الحق - فأخذ حجراً وقال اليوم أعلم أيهم أحب إلي الله، الساحر أم الراهب، ثم نظر إلي الحجر وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة بهذا الحجر، فأخذ الحجر، ودعا وألقي الحجر، فوقع الحجر في فم الدابة فماتت. فقال الناس: ساحر عظيم، ساحر عظيم، أما هو فقال: لا إله إلا الله. كان حقاً يومًا فاصلًا في حياة الغلام، فقد عرف الحق، عرف أنه «لا إله إلا الله».
أي بُني أنت اليوم خيرٌ مني:
وبعد ذلك انطلق الغلام مسرعًا إلي الراهب، وقصَّ عليه ما حدث، فقال له الراهب: (أي بني أنت اليوم خيرٌ مني)، لم يكن خيرًا منه في العلم، لأن الراهب أعلم، ولكنه خيرٌ منه في خدمة الناس، وفي التواصل والتعامل مع الناس، كما أوضح له الراهب من قبل أن الخيرية لمن يخدم الناس، وقال له: إن الله لن يتركك أبدًا، لأنه لم يختر الملك ولا الساحر ولا المال، ولكنه اختار الله سبحانه وتعالي. انظروا أيضًا إلي إخلاص الراهب وذكائه، عندما قال له: أنت خير مني، فكان يعي أن الدابة كانت تحجز الناس عن أن يصلوا إلي الخير، والملك أيضًا يمنع ويحجز الناس عن أن يصلوا إلي الخير، وقد قضي الغلام علي الدابة، وخلّص الناس منها، إذًا فهو الذي سيخلص الناس من الظلم. هل قال معلم لتلميذه: أنت خير مني؟ وهل قالها أب لابنه؟ وإذا كان خيرًا منك، فهذا معناه أنه امتداد لك، وأنت الفائز في هذه الحالة.
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ..؟؟
ثم قال له الراهب كلمة أخيرة: (وإنك ستُبتلي) ألم تختر طريق الإصلاح؟ ألم تختر أن تعيش للناس لا للظلم؟ ألم تقرر أنك ستحمل الحق؟ إذاً ستُبتلي. هذا الحديث موجه إلي كل صاحب رسالة، وكل شاب. أتذكرون رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما بُعث وذهب إلي ورقة بن نوفل؟ فقد قال له: «سيخرجك قومك»، فقال له رسول الله: (أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ..؟!). انظر إلي قوله تعالي: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * َولَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ - هذه سنة الله في الكون - فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) }العنكبوت 1-3{. أكمل الراهب بعد ذلك، وقال: (أي بُني أنت اليوم خيرٌ مني، وإنك ستُبتلي، فإذا أُبتليت، فلا تدُل علي)، هل هذا خوف أم خطة؟ من الممكن أن يكون هذا أو ذاك، وهذا ما سنعرفه، وبذلك انتهي إعداد الغلام.
هذة الحلقات تصدر قريباً في كتاب عن دار «نهضة مصر للطباعة والنشر
عمرو خالد في قصص القرآن:
عش من أجل الناس ولاتخدم الظالمين فالحياة قصيرة فلا تهين نفسك من أجلها أو من أجل لقمة العيش
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي رسول الله صلي الله عليه وسلم، أهلاً بكم. تناولنا حتي الآن في قصص القرآن قصتين، هما قابيل وهابيل، وقصة أصحاب الجنة، وتتحدث كل قصة عن نوع من مشاكل البشر، وكل فرد يري فيها نفسه. كما أخبرتكم في أول حلقة أن كل فرد منا سيري نفسه في قصة أو أكثر من قصة، ولذلك عندما تحدثنا عن قابيل وهابيل سألنا: هل أنت من النفس المطمئنة؟ أم الحاسدة؟ أم المتكبرة؟ أم البخيلة؟ أم الطماعة؟ ووجدنا رسائل أخري للبنان، وفلسطين، والعراق، ودارفور، وتكلمنا عن كيفية التعايش مع بعضهم البعض، وتكلمنا عن رسالة عن صلة الرحم، ثم بعد ذلك تكلمنا عن أصحاب الجنة، والحث علي عدم أكل حقوق المساكين، وإخراج العطاء والصدقة. أتذكرون شعارنا؟ سأحيا بالقرآن.
»
قصة اليوم قصة جديدة، لها بُعد وزاوية جديدة، وهي قصة طويلة، ونزلت فيها سورة كاملة، وهي سورة البروج، والنبي - صلي الله عليه وسلم - قصَّ هذه القصة، وعندما تطلع علي كتب الأحاديث ستجد أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قصَّ القصة في ثلاث صفحات، فهي واقعية، ومليئة بأحداث مؤثرة، وقد قصَّها رسول الله - صلي الله عليه وسلم - في مكة لعلي بن أبي طالب وبلال وصهيب ولسمية رضي الله عنهم أجمعين. أتخيل عندما قصَّها لعلي بن أبي طالب، وأتخيل عينيّ علي بن أبي طالب وهو يقول: وعيت ما قلته يا رسول الله.
هذه القصة يمكن أن تكون فيلمًا دراميًا مؤثرًا للغاية، وأنا أرجو كُتاب السيناريو أن يستمعوا لهذه القصة، لأنها من الممكن أن تكون فيلمًا عالميًا، فمن حلاوة قصص القرآن أنها ليست منغلقة علي المسلمين فقط، وإني لأتساءل لماذا أغلق المسلمون كتابهم علي أنفسهم؟!
هذا كتاب عالمي يحدث العالم. أنتم أصحاب رسالة عالمية يا مسلمون، بدأت بـ: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) }الفاتحة:2{، وختمت بـ: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) }الناس:1{، رسالة عالمية، وقصة اليوم عالمية.
أين ومتي وقعت هذه القصة؟
وقعت هذه القصة في اليمن في منطقة تسمي نجران علي حدود السعودية الآن، وقد كانت سنة خمسمائة وثلاث وعشرين ميلادية، أي قبل بعثة النبي - صلي الله عليه وسلم - بأربعين سنة، أي أنها قريبة جدًا من عصر النبي - صلي الله عليه وسلم -.
شخصيات القصة:
شخصيات القصة هم: ملك، ساحر، راهب، وغلام يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، ورضيع، وجنود، وشعب، وبطل القصة هو الغلام الذي يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، واسمه عبد الله بن ثامر، ولن أركز علي اسمه لأن النبي - صلي الله عليه وسلم - لم يركز علي الاسم، ولكنه ركز علي كلمة الغلام. وكأن النبي يُحدث كل غلام في نفس المستوي العمري لهذا الغلام، بل ويُحدث أيضًا شباب الأمة في هذه القصة، فبطل القصة هو الغلام، وليس الراهب العابد.
أهداف القصة:
يريد رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أن يعلمنا من وراء هذه القصة عدة معان منها:
1- لابد أن تكون صاحب رسالة، ولا تحيا لكي تأكل، وتشرب، وتتزوج، وتنجب، وتموت
فقط، هذه ليست حياة لإنسان يريد أن يحمل رسالة.
2- عش بالحق وضَحي من أجل الحق ولو بحياتك، وواجه الظلم ولكن بحكمة، وبدون عنف، واكشف الباطل بحكمة أيضًا.
3- عش من أجل الناس وخدمتهم، ولا تخدم الظالمين.
4- الحياة قصيرة، لذلك إياك أن تهين نفسك من أجل الظلم، أو من أجل لقمة العيش، لأن الحياة لا تساوي شيئًا.
5- الإعلام له دور أيضًا، فمن الممكن أن يخدع ويضل الناس، أو أن يأخذ بأيديهم إلي الهداية والصلاح، وكلاهما في القصة.
الأحداث:
الملك:
في يوم من الأيام، كان هناك ملك يُدعي «ذو نواس»، يعيش في اليمن، سنة خمسمائة وثلاث وعشرين ميلادية، وكان ظالمًا شديد الظُلم، يأكل حقوق الناس، ولكي يخفي ما كان يفعله من أكله لحقوق الناس وظلمه إياهم وسجنهم وقتلهم، ولكي يقبل الناس ذلك جعل من نفسه إلهًا، فالملك قد فعل جريمتين، وهما: أكل حقوق الناس، وجعل من نفسه إلهًا، ولأن الناس كانت خائفة من بطشه وظلمه قبلت هذا الوضع إلا شخصًا واحدًا، ونسوا أن لا إله إلا الله بعدما قد جاء بها المسيح عيسي - عليه السلام.
الراهب:
الراهب رجل مسن، وهو الرجل الوحيد الذي يعلم أن هذا الملك كاذب، ومخادع، وأن الملك جعل من نفسه إلهًا لكي يأكل حقوق الناس، والراهب يعني أن هناك مشكلتين لابد من علاجهما وهما: أن لا إله إلا الله قد نُسيت، والمشكلة الأخري أن الناس قد سُلبت حقوقها، فالراهب يريد أن يحل هاتين المشكلتين، ولكن بدون عنف. بدأ الراهب يتحدث مع الناس، وحدثت همهمة في البلد بين الناس وهم يتحدثون عن الحق، والعدل، والحرية، والدين، وعن لا إله إلا الله، فوصل الأمر لمسامع الملك وبدأ يبطش بهم، وأخذ واحدًا من هؤلاء الذين كانوا يتحدثون، فظل يعذبه، والرجل يقول له: أنت لست بإله، فيزداد الإيذاء، فيقول له الرجل مرة أخري: أنت لم تصنع معجزات، والإله يصنع المعجزات، فيزداد الإيذاء عليه، حتي قال له الملك: مَنْ الذي أخبرك بهذا الحديث؟ فأخبره عن الراهب، فعندما علم الراهب بذلك فرّ.
شعر الملك من داخله أنه ضعيف وليس بإله، فأراد أن يعمل شيئًا إعلاميًا ليُبهر به الناس، ويروه قويًاً، فأتي بساحرٍ.
الساحر:
دور الساحر هو أن يقنع الناس أن الملك إله، فبدأ الساحر بالخدع، وبفعل أشياء وكأنها معجزات، ويوهم الناس أنه هو الذي يفعل هذه الأشياء، وأن السحاب يتجمع ويُشكل اسم الملك، وكلها بالخدع، فصدق الناس هذه الخدع. وقُتل الرجل الذي كان يُؤذي، وفرَّ الراهب منذ ذلك اليوم. أما الملك فسعد بصنيع الساحر وقربه منه، وكبر في مملكة الملك، وأصبح ناجحًا، والناس نسيت لا إله إلا الله، بعد فرار الراهب أصدر الملك قراراً بأن من يجد الراهب له جائزة وقدرها ألف دينار، وقد فرَّ الراهب إلي كوخ داخل مغارة علي حدود المدينة، ولكنه يسعي لإيجاد مَنْ يحمل عنه الرسالة لأنه أصبح مسنًا، وقاربته المنية. ومن ناحية أخري، كان الملك يحذر من الساحر بل ويبغضه لأنه الوحيد الذي كان يعلم سره، وكان ينتظر الفرصة السانحة لكي يقضي عليه ويتخلص منه، والساحر يتغير في كل زمان، تارة يكون الفن، وتارة يكون عناوين الصحف، وتارة تجده في التلفاز، وتارة في الأغاني.
انظر إلي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وهو يقول: (كان فيمن كان قبلكم، ملك وكان عنده ساحر) - تخيل السيدة سمية وهي تسمع الآن، وسيدنا أبو بكر، وسيدنا بلال، ويسمع أيضًا سيدنا علي، وسيدنا الزبير وسيدنا طلحة، وكل واحد منهم في سن الغلام، وكأن النبي - صلي الله عليه وسلم - يُريد أن يُبين لنا بأن مُلك الملك وِسحر الساحر متلازمان، لأن الساحر هو الذي يقنع الناس لكي يظل مُلك الملك، وهو أيضًا وسيلة إعلام للملك_ فقال الساحر للملك: (إني قد كبُرت) - إذن فالساحر كبُر، والراهب أيضًا كبُر - (فانظر إلي غلام، اُعلمه السحر، ليبقي ما تصنع وما تريد) - فالساحر يريد جيلاً جديدًا من السحرة لكي يعلمهم السحر، ليبقي ما يريده الملك، ولكي يظل الفساد والظلم وخداع الناس كما هو-(فانظر لي غلامًا فطنًا أُعلمه السحر) فأتي بالغلام.
الغلام:
كان هناك غلام يبلغ من العمر سبع سنوات يشاهد كل هذا، ودعونا نسميه بـ «الغلام» كما سماه النبي - صلي الله عليه وسلم -، وذلك لكي يعي كل شاب صغير هذه القصة. ظل وضع المدينة هكذا سبع سنوات، وعندما بلغ الغلام الخامسة عشرة من عمره أتي به الملك إلي الساحر لشدة ذكائه، فتعلم السحر والخدع وسار علي نهج الساحر، لأنه لم يكن صاحب رسالة. دخل الغلام قصر الملك ورأي الفخامة التي فيه، وظل يحلم بأنه في يوم من الأيام سيحل محل الساحر، ويعيش في هذا النعيم، وقد أُغري بهذه الأشياء كلها، ولكن هل الحق أقوي يا تُري؟!
أصبح الغلام علي دراية تامة بكيفية صنع الخدع وأفعال السحر، لأنه فطن وذكي. يقول النبي - صلي الله عليه وسلم -: (فكان الغلام إذا أراد أن يذهب إلي الساحر، مرَّ علي كهف الراهب..) لأن الراهب يسكن علي أطراف المدينة، والغلام يسكن خارج المدينة، لأنه من عائلة فقيرة، فكان كلما ذهب إلي قصر الملك - لكي يتعلم السحر - يمرُّ علي كهف الراهب. الله هو المدبر حقاً، فالساحر يُدبر، والملك يُدبر، وربك أيضًا يُدبر، والراهب يُريد أيضًا أن يوصل رسالته. بدأ الراهب يلاحظ أن هناك من يمرّ من أمام الكهف، والراهب خائف ومطارد، فبدأ يرصده، فوجده غلامًا صغيرًا عليه سمت الذكاء والفطنة، فبدأ يُفكر كيف يصل إلي هذا الغلام. المعركة هنا علي الغلام، يا تري من الذي سينتصر؟ ومن الذي سيأخذ الجيل الجديد؟ الساحر أم الراهب؟ الإيمان أم الباطل؟ ويا تري يا شباب ما الذي ستختارونه؟ هل ستختارون أن ترقصوا علي أغاني الفيديو كليب، أم ستختارون الحق وتواجهون الظلم وتخدمون الآخرين، وتحيون من أجل رسالة؟ أيها الشاب.. إن المعركة الآن علي الجيل الجديد، وليس هناك أمل للوطن العربي ولا لهذه الأمة إلا بجيل جديد يحمل رسالة.
مقابلة الراهب:
الراهب يريد أن يصل إلي الغلام، ويريد أن يتحدث إليه، وفي يوم من الأيام كان الغلام ذاهبًا إلي الساحر، فسقط في حفرة، فذهب الراهب إليه، وقال له: أخرج نفسك، دع السحر الذي تعلمته يخرجك من هذه الحفرة. ولكن الراهب مدّ يده للغلام، وأخرجه من تلك الحفرة، وقال له: «الساحر علمك الوهم، وأنا سأُعلمك الحقيقة، إذا كنت تريد أن تتعلم الحقيقة، هذا هو كهفي». هذه مغامرة من الراهب لأن الغلام ممكن أن يبلغ عنه الملك، ويأخذ الألف ألف دينار، ولكنه ضحي من أجل الحق، وكان لابد له أن يغامر.
ترك الراهب الغلام لحب الاستكشاف التي هي سمة الشباب في ذلك السن، وكان الراهب علي يقين بأن الغلام سيأتي إليه، وقد أحدث الغلام شيئًا في غاية الروعة، وهو أنه سأل عن الراهب قبل أن يأخذ منه العلم. احذر أيها الشاب أن تنساق مع أي شخص يمكن أن يكون متطرفاً. وعندما سأل عن الراهب قيل له إنه كان رجلًا طيبًا، ولكن حوله شبهات وعلامات استفهام كثيرة، عندئذٍ قرر الغلام أن يذهب إلي الراهب، ولكن الراهب لم ينزعج بالشبهات وعلامات الاستفهام الكثيرة التي حوله، لأنه يعلم أن الله سبحانه وتعالي موجود؛ وسيُظهر الحق، والذي يقال عن الدعاة اليوم من شبهات علي صفحات الإنترنت يثير لدي الشباب حُب الاستكشاف، وهذا يكون بداية الخيط الذي يأخذه الشباب لكي يعلموا الحق. والغلام أراد أن يستكشف. فأنا أنصح الآباء والأمهات، وأقول لهم: إن جزءًا من تكوين ولدك أنه يريد أن يستكشف العالم من حوله، ولابد أن تتعامل معه بحكمة، فلذلك لابد أن تغرس بداخله القيم والأخلاق منذ صغره، لأنك لا تستطيع أن تسيطر عليه في هذه السن بالعنف.
الغلام يتعلم علي يدي الراهب:
ذهب الغلام إلي الراهب، وظل يسأله عن الذي لديه، بل كان يذهب إلي الراهب والساحر في آنٍ واحد، وظل الراهب يشرح للغلام كل شيء، والغلام يلِح عليه ويكثر من الأسئلة، إلي أن علمه لا إله إلا الله، وأخبره بالحقيقة كلها، وهي أن الملك ليس بإله، وأن الذي يعلمه لك الساحر خداع ليخدع به الناس، وأن الساحر باع دينه لكي يحصل علي المال الوفير الذي ليس له قيمة، فاستوعب الغلام كل كلمة قالها الراهب، ولم يُبلغ عنه ويأخذ الجائزة بالرغم من صغر سنه، بالإضافة إلي أنه في حاجة ملحة إلي المال. أريد أن أنصح الشباب بهذه المناسبة: لا تبيعوا يا شباب دينكم، لو العامة والناس كلها باعت دينها فلا تبيعوه أنتم. إذا بقي شاب واحد لم يبع فمن الممكن أن يكون هذا الشاب أو هذا الغلام عبد الله بن ثامر.
لم يسلم الغلام نفسه بالكلية للراهب، فكان يذهب أيضًا للساحر، لأن هذه هي طبيعة الشباب، ولأنه أيضًا كان مترددًا. قال النبي: (فجلس الغلام يسمع إلي الراهب، ويسأله عن الله كلما مرّ به، حتي أخبره الحق كله)، فتوطدت العلاقة بين الراهب والغلام، وأصبح يراه مرتين يوميًا، مرة وهو خارج من بيته ذاهبًا إلي قصر الملك لكي يتعلم السحر، ومرة أخري وهو عائد من عند الساحر إلي بيته، لذلك هو يذهب إلي الراهب صباحًا ومساءً. أريد أن أسأل الشباب: ما هي رسالتك في الحياة؟ ما الذي تريده؟ لا تحيا للا شيء، ولكن عش من أجل الحق، وابحث عما تستطيع أن تصلحه في بلدك وافعله.
الغلام بين الساحر والراهب:
انظر إلي الشاب! هو غلام ليس لديه معجزات وليس بنبي. رأي أن الراهب يعيش في كوخ، والساحر يعيش في قصر الملك، أحدهم يعلمه الخداع، والآخر يعلمه الحقيقة، أحدهم في يديه كل السلطة «الساحر»، والآخر مطارد في كهف «الراهب». تخيل أن الغلام يري هذين الشخصين كل يوم! فهذا بمثابة إعداد للغلام.
أريد أن أقول لكل أب، احذر أن يكون أبناؤك منغلقين ولا يفعلون شيئًا في حياتهم، لأنهم إذا كانوا منغلقين فلن يستطيعوا أن يواجهوا شيئًا في هذه الدنيا، فالغلام رأي المتناقضات، وتلقي العلم من مصدرين متعارضين، فأصبح منفتحًا، وأصبح عميق التفكير. وعندما كان يذهب الغلام إلي الراهب لم يكن الراهب يمنعه من الذهاب إلي الساحر، لأن فطرته هي التي ستدله بعد ذلك إلي الحق، وأنا علي يقين أننا إذا ما نفذنا هذا الأسلوب مع شبابنا فسوف يختارون الحق، ومهما كان الظلم متفشيًا وظاهرًا، فهناك فطرة لا إله إلا الله في النفوس.
بدأ الراهب يعلم الغلام الحق والخير ومساعدة الناس وأن يحبهم ويخدمهم، ويعلمه أن الدنيا قصيرة، ولابد أن نحيا من أجل الحق، وقمة الخذلان أن تموت وأنت بلا قيمة، وعلمه أن لا إله إلا الله، فلا نخشي إلا من الذي خلقنا، وعلمه أن يكون مرنًا ومتوازنًا. لاحظوا أن الراهب قد احترم عقل الغلام، فعندئذٍ احترمه الغلام أيضًا، وكانت النتيجة أن الغلام أصبح يسمع للراهب، لذلك أريد أن أوصي الآباء: عندما تحرم ابنك من شيء لخطأ ما ارتكبه، فلا تحرمه منه كلية، ولكن جزء منه لكي يحترمك، ويشعر أنك تحترم عقله.
اختيار الغلام:
هل سيختار الغلام الألف ألف دينار ويكون في رعاية الملك؟ أم سيذهب إلي الراهب المطارد؟ هل سيختار الحق أم الباطل؟
يحكي النبي صلي الله عليه وسلم ويقول: (فكان الغلام إذا أتي الساحر تأخر- لأنه عند الراهب- فضربه الساحر، فإذا عاد إلي أهله ليلًا تأخر- لأنه عند الراهب أيضًا - فضربه أهله)، ونحن قد علمنا فيما سبق أن الراهب لم يمنعه من الساحر، وقال له: «تعال في الصباح قبل أن تذهب إلي الساحر، وعند المساء، قبل العودة إلي منزلك»، وذلك ليعطيه الجرعة الإيمانية في الصباح، وفي المساء ليزيح عنه السموم التي بثها بداخله الساحر. بعد فترة من هذه الأحداث اشتد الإيذاء علي الغلام من قِبل الساحر ومن قِبل أهله، فكانت النتيجة أنه ذهب واشتكي إلي الراهب، لأنه لم يؤذه قط، وهذا دليل علي نجاح الراهب في دعوته للغلام، ودليل نجاح أي داعية إلي الله أن يحكي له الناس مشاكلهم الخاصة، ودليل نجاحك أيضًا كأب أو كأم أن يحكي لك ابنك مشاكله.
عندئذٍ سأل الغلام الراهب ماذا يفعل لكي يخفف عن نفسه شدّة الإيذاء، فقال له الراهب: «إذا تأخرت في ذهابك إلي الساحر فاجلس عند أهلك بعض الوقت، فإذا سألك فقل أخرني أهلي، وإذا تأخرت في العودة إلي أهلك فاجلس معه بعض الوقت أيضًا وقل أخرني الساحر»، وهنا يعلمه المرونة، إنه يحافظ علي نفسه مع عدم الكذب، بالإضافة إلي أنه لم يعلمه المثالية، وكان في استطاعة الراهب أن يقول له: قل لأهلك الحقيقة، أو يقول له: لا تذهب للساحر مرة أخري، أو من الممكن أن يقول له: تحمل الضرب، ولكن الراهب يعي أنه في مواجهة بين الحق والباطل، فعندما يكون هناك مواجهة بين الحق والباطل لابد أن يكون هناك مرونة، وأريد أن أنصح بها كل أب، وأقول له: لا تدع ابنك يقول لك حبسني الساحر!! كن أبًا صديقًا.
اليوم الفاصل وظهور الحق:
تعب الغلام من الصراع الداخلي الذي بداخله، كما أنه لم يختر إلي الآن، ولكنه يميل إلي الراهب، هو ليس بصاحب رسالة بعد، ولكنه اكتسب خبرة. أريد أن أقول: إنه لا يوجد أحد يكبر هكذا بدون أن يتعب ويبذل مجهودًا. إذا كنت تريد النجاح في حياتك العملية عليك أن تتعب وتبذل مجهودًا، وتتحرك في الدنيا، وتمشي في مناكبها، ولكن حصِّن نفسك بالإيمان.
في يوم من الأيام كان الغلام يسير في الطريق، وبينما كان هذا الصراع يموج في داخله، سمع صوت صراخ، والناس تعلم أن هذا الغلام تلميذ الساحر. يقول النبي صلي الله عليه وسلم: (فبينما الغلام يمرّ في الطريق، إذا بدابة - أسد - تحبس الناس عن الطريق - منعت الناس أن يذهبوا لكي يملأوا المياه من البئر، والناس خائفون، فخطرت للغلام فكرة - فقال الغلام اليوم أعلم أيهم أحب إلي الله، الساحر أم الراهب - لأنه استنبط أنه لو ساعد هؤلاء العامة فإن الله سيظهر له الحق. ساعد الناس من أجل الحق، اخدم الناس والله سيظهر لك الحق - فأخذ حجراً وقال اليوم أعلم أيهم أحب إلي الله، الساحر أم الراهب، ثم نظر إلي الحجر وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة بهذا الحجر، فأخذ الحجر، ودعا وألقي الحجر، فوقع الحجر في فم الدابة فماتت. فقال الناس: ساحر عظيم، ساحر عظيم، أما هو فقال: لا إله إلا الله. كان حقاً يومًا فاصلًا في حياة الغلام، فقد عرف الحق، عرف أنه «لا إله إلا الله».
أي بُني أنت اليوم خيرٌ مني:
وبعد ذلك انطلق الغلام مسرعًا إلي الراهب، وقصَّ عليه ما حدث، فقال له الراهب: (أي بني أنت اليوم خيرٌ مني)، لم يكن خيرًا منه في العلم، لأن الراهب أعلم، ولكنه خيرٌ منه في خدمة الناس، وفي التواصل والتعامل مع الناس، كما أوضح له الراهب من قبل أن الخيرية لمن يخدم الناس، وقال له: إن الله لن يتركك أبدًا، لأنه لم يختر الملك ولا الساحر ولا المال، ولكنه اختار الله سبحانه وتعالي. انظروا أيضًا إلي إخلاص الراهب وذكائه، عندما قال له: أنت خير مني، فكان يعي أن الدابة كانت تحجز الناس عن أن يصلوا إلي الخير، والملك أيضًا يمنع ويحجز الناس عن أن يصلوا إلي الخير، وقد قضي الغلام علي الدابة، وخلّص الناس منها، إذًا فهو الذي سيخلص الناس من الظلم. هل قال معلم لتلميذه: أنت خير مني؟ وهل قالها أب لابنه؟ وإذا كان خيرًا منك، فهذا معناه أنه امتداد لك، وأنت الفائز في هذه الحالة.
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ..؟؟
ثم قال له الراهب كلمة أخيرة: (وإنك ستُبتلي) ألم تختر طريق الإصلاح؟ ألم تختر أن تعيش للناس لا للظلم؟ ألم تقرر أنك ستحمل الحق؟ إذاً ستُبتلي. هذا الحديث موجه إلي كل صاحب رسالة، وكل شاب. أتذكرون رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما بُعث وذهب إلي ورقة بن نوفل؟ فقد قال له: «سيخرجك قومك»، فقال له رسول الله: (أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ..؟!). انظر إلي قوله تعالي: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * َولَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ - هذه سنة الله في الكون - فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) }العنكبوت 1-3{. أكمل الراهب بعد ذلك، وقال: (أي بُني أنت اليوم خيرٌ مني، وإنك ستُبتلي، فإذا أُبتليت، فلا تدُل علي)، هل هذا خوف أم خطة؟ من الممكن أن يكون هذا أو ذاك، وهذا ما سنعرفه، وبذلك انتهي إعداد الغلام.
هذة الحلقات تصدر قريباً في كتاب عن دار «نهضة مصر للطباعة والنشر
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى